في تطور لافت على الساحة السورية، بدأت أصوات المجتمع المدني تعلو بشكل تدريجي، بعد تراجع أصوات الرصاص. ويأتي ذلك في إطار المحاولات الوليدة لدفع العملية السياسية السورية نحو حالة تعددية تشمل الجميع، لا سلطة لقوة واحدة فقط عليها، خصوصاً في ظل التحكّم الحالي المطلق لـ«إدارة العمليات العسكرية» التي تقودها «هيئة تحرير الشام» برئاسة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، والتي قامت بتشكيل حكومة مؤقّتة لإدارة شؤون البلاد، تمهيداً لمرحلة مقبلة يأمل السوريون ألّا تتكرر فيها أخطاء الماضي. على أن الحراك الذي شمل معظم المدن السورية الكبيرة تقريباً بأشكال مختلفة، تجلّى بشكل واضح في العاصمة السورية التي تجمّع فيها مئات المواطنين في ساحة الأمويين، تلبية لدعوة أطلقتها فعاليات شبابية، رافعين شعارات تنادي بمدنية سوريا وتعدّديتها وعلمانيتها، ورفض أي محاولة لفرض أنظمة سياسية - دينية عليها. كذلك، شهدت اللاذقية حراكاً مشابهاً اجتمع خلاله عشرات الأشخاص في ساحة الشيخ ضاهر، ولم تُسجل أي احتكاكات في هذه التجمعات، التي شهدت حضوراً من عناصر «إدارة العمليات العسكرية»، شارك بعضهم في الحوار القائم وإبداء الرأي.
ومن المتوقّع أن تشهد التحركات المدنية تصاعداً أكبر خلال الفترة المقبلة، في ظل تراجع المخاوف التي كانت تعتري شرائح سورية عديدة، على خلفية تاريخ الفصائل التي تسلّمت إدارة البلاد في الوقت الحالي، وارتباطها بأفكار متشددة. وبالتوازي مع ازدياد حدة النشاط السياسي في الشارع السوري، بدأ السوريون يلتمسون انخفاضاً في منسوب الفوضى والفلتان الأمني، بعد أن نشطت فعاليات أهلية قامت بتشكيل لجان لحماية الأحياء، تعمل بالتعاون مع الفصائل التي انتشرت في المدن. غير أن هذه الجهود لم تمنع استمرار عمليات السرقة أو السطو المسلح، خصوصاً في ساعات الليل، وسط وعود بضبط أمني أكبر، ولا سيما بعد الإعلان عن فتح باب التوظيف في وزارة الداخلية لتشكيل وحدات شرطية تقوم بفرض الأمن في المدن.
في هذا الوقت، كشف الشرع، خلال لقاء تلفزيوني، عن خطته لمستقبل سوريا، والتي تتضمن ثلاث مراحل أساسية، تبدأ بتسلّم الحكومة الجديدة مهامها بشكل كامل لتسيير شؤون الدولة، ومن ثم الدعوة إلى مؤتمر وطني جامع لكل السوريين يتم خلاله الاتفاق والتصويت على حل الدستور والبرلمان، وتشكيل مجلس استشاري يملأ الفراغ الدستوري والبرلماني إلى حين تجهيز الظروف للانتخابات. ولاقت تصريحات الشرع شعوراً بالاطمئنان لدى السوريين، في ظل محاولته إظهار النأي بنفسه عن اتخاذ أي قرارات مصيرية في سوريا، باستثناء تسيير شؤون البلاد في الوقت الحالي، والتأكيد على حق الشعب في انتخاب من يحكمه، وتشكيل لجان مختصّة تتولى النظر في الشؤون القانونية بما يتلاءم مع التنوع الديموغرافي في سوريا.
ستتوجّه مساعدة وزير الخارجية الأميركي، باربرا ليف، إلى دمشق في الأيام المقبلة
وتزامنت التصريحات الجديدة للجولاني مع أنباء عن اقتراب عقد مؤتمر وطني سوري، دعا إليه الرئيس الروحي لطائفة «المسلمين الموحّدين الدروز»، الشيخ حكمت الهجري. كما تزامنت مع حديث عن تواصل تمّ بين «إدارة العمليات العسكرية» وفاروق الشرع، نائب الرئيس السوري السابق بشار الأسد، في خطوة من شأنها أن تشكّل توازناً قد ينهي حالة الجدل القائمة حول طريقة تطبيق القرار 2254، والذي كان من المفترض أن يشارك فيه النظام السابق، والذي لم يعد موجوداً في الوقت الحالي.
ويبدو أن الخطوات الأولية التي اتخذتها الفصائل التي تسيطر على الحكم في سوريا، لاقت قبولاً دولياً، في ظل الإقبال الكبير من قبل دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا على زيارة سوريا، وإجراء لقاءات استكشافية، وبدء فتح السفارات المغلقة منذ 12 عاماً، أملاً في إنهاء ملف اللاجئين السوريين، وزيادة الضغوط على روسيا لدفعها إلى الخروج من سوريا. وتلك نقطة أشار الجولاني إلى أنه من المبكر الحديث عنها، مشدّداً على تمسك سوريا بعلاقتها الاستراتيجية مع روسيا، ومع جميع الدول، والنأي بالنفس عن أي صراعات دائرة.
وتأتي هذه التصريحات حول روسيا بعد أن كشفت موسكو عن توسيع قنوات الاتصال مع «هيئة تحرير الشام»، في وقت رفض فيه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وصف ما جرى في سوريا بأنه خسارة لبلاده، مدافعاً، في تصريحات صحافية، بأن روسيا كانت تسعى لعدم تشكيل بؤرة للإرهاب مثل أفغانستان. وقال: «حقّقنا أهدافنا بشكل ما (...) الجماعات التي حاربت الجيش العربي السوري تغيّرت، إذا كانت الدول الغربية تسعى اليوم إلى الحوار مع هذه الجماعات، فإن ذلك يعني أن هناك تغييرات طرأت على هذه الجماعات بالفعل». وأضاف أن «الغالبية العظمى من دول الشرق الأوسط تؤيد بقاء قواعد عسكرية روسية في سوريا»، متابعاً: «نعوّل على أن يعمّ السلام والهدوء في سوريا، ونبني علاقاتنا مع جميع المجموعات التي تسيطر على السلطة هناك، ومع دول المنطقة».
بدورها، اعتبرت تركيا، التي تقود المشهد السياسي في سوريا وأصبحت تمتلك اليد الطولى فيه، أن القوى التي تسيطر على هذا البلد حالياً «شريك شرعي». وقال وزير الخارجية التركي، حاقان فيدان، الذي رفض اعتبار أن بلاده تدير الشؤون في سوريا، إن وجود تركيا في سوريا يهدف إلى منع المزيد من الهجرة ومكافحة الإرهاب، مشيراً إلى أنه «عندما نرى زوال هذين القلقين الأساسيين، لن يبقى لدينا أي سبب للبقاء في سوريا». وتابع: «نرى حالياً أن الخطوات الصحيحة تُتخذ في الاتجاه الصحيح (...) أعتقد بأن هيئة تحرير الشام قد خطت خطوات كبيرة في فصل نفسها عن القاعدة وداعش والعناصر الراديكاليين الآخرين».
وفي خطوة سياسية تُعتبر الأبرز حتى الآن، أفاد موقع «أكسيوس»، نقلاً عن مسؤولين أميركيين، بأن مساعدة وزير الخارجية الأميركي، باربرا ليف، ستتوجه إلى دمشق في الأيام المقبلة. وهكذا ستكون ليف التي شاركت في اجتماع العقبة الأخير، وأجرت جولة في الأردن وقطر وتركيا، أرفع مسؤول غربي يزور دمشق ويقدم على لقاء الجولاني، بعد أن استقبل الأخير خلال الأيام الماضية وفوداً سياسية وأمنية مختلفة.